في ظل التوترات، يطلق الخبراء تحذيرات من العواقب السلبية التي قد تترتب على قرار إدارة ترامب الانسحاب من المنظمة، معتبرين أن هذا التصرف قد يشكل خطوة استراتيجيّة غير محسوبة من شأنها تقويض جهود التعاون العالمي في مواجهة الأزمات الصحية.
تقرير لـ “دويتشه فيله” يشير إلى أنه من المقرر أن يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية “في أول يوم من ولايته الرئاسية”. ويحذر الخبراء من أن هذه الخطوة قد تكون ضارة لكلا الطرفين.
وكان ترامب، الذي سيتم تنصيبه لفترة ولاية ثانية وأخيرة كرئيس للولايات المتحدة في 20 يناير الجاري، قد حاول أيضًا الانسحاب من منظمة الصحة العالمية في يوليوفي نهاية إدارته الأولى.
لكن قطع العلاقات بشكل كامل مع منظمة الصحة العالمية لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها بسبب قرار الكونغرس طويل الأمد الذي يتطلب من الرئيس تقديم إشعار مدته عام واحد وسداد أي التزامات متبقية.
وبسبب هذا الجدول الزمني، فإن انتخاب جو بايدن للرئاسة في العام 2020 بعد أشهر قليلة من مرسوم ترامب، مكن الديمقراطي من عكس القرار.
فيما يشير التقرير إلى أنه لن تواجه الخطوة التي قد يتخذها ترامب هذه المرة أي عقبات. ففي أول يوم له في منصبه، قد يعلن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، والذي سيدخل حيز التنفيذ في يناير 2026.
وإذا انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، فسيكون ذلك بمثابة ضربة قوية لميزانية المنظمة وقدرتها على تنسيق البرامج والسياسات الصحية الدولية.
منظمة الصحة العالمية هي وكالة تابعة للأمم المتحدة تتألف من 196 دولة عضو، والتي تدفع للمنظمة عبر “الاشتراكات المقررة” – وهي في الواقع رسوم عضوية – على أساس الناتج المحلي الإجمالي وأرقام السكان على دورة تمويل مدتها سنتان. وتستحوذ الولايات المتحدة على ما يقرب من ربع هذه الأموال، متقدمة على الصين واليابان وألمانيا.
سياسات ترامب
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، إلى أن عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية تهدد بإحداث هزة، وفي بعض الحالات تقويض التزامات واشنطن تجاه الجهود العالمية لتحسين الصحة العامة، وفقاً للعديد من المنظمات والمسؤولين، الذين نقلت عنهم الصحيفة قولهم: إن خطط فريق ترامب الانتقالي لإثارة الانسحاب من منظمة الصحة العالمية مرة أخرى تعكس شكوكاً أوسع نطاقًا في الهيئات الدولية، مما يلقي بظلال من الشك على مساهمات الولايات المتحدة في البحث العلمي ومكافحة الأمراض المعدية والاستعداد للأوبئة.
- الرئيس التنفيذي لمؤسسة ويلكوم تراست، جون أرن روتينجن، يقول: ”يجلب قادة الصحة في الولايات المتحدة خبرة فنية هائلة وقيادة ونفوذاً، وخسارتهم المحتملة من المسرح العالمي ستكون لها عواقب كارثية، مما يجعل الولايات المتحدة والصحة العالمية أضعف نتيجة لذلك”.
- يشعر الخبراء بالقلق أيضًا من أن إدارة ترامب الثانية سترفض أفضل الممارسات العلمية، مما يؤدي إلى نشر معلومات مضللة على مستوى العالم. ويستشهدون بترشيح ترامب لروبرت إف كينيدي جونيور ، وهو من أبرز دعاة مكافحة اللقاحات، لمنصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية.
- مدير الوصول إلى الأدوية في منظمة Public Citizen، بيتر مايباردوك، يقول إن تثبيط حملات التطعيم من شأنه أن يهدد “حياة ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم.. وقد يؤدي التضليل إلى تراجع أحد أهم إنجازات البشرية خلال الـ100 عام الماضية”.
ونقلت الصحيفة عن أحد المقربين من فريق ترامب الانتقالي، قوله: “لا أعتقد بأن الرئيس ترامب يهتم كثيرا بما يقوله خبراء الصحة العالمية.. لقد صوت الشعب الأميركي بأغلبية ساحقة ضد النخب وأولئك الذين يفرضون موقفهم المتفوق على الشعب الأميركي”.
- حذر خبراء الصحة بالفعل من أن ترامب يخطط لبدء عملية الانسحاب من منظمة الصحة العالمية في اليوم الأول من إدارته في 20 يناير واستكمال الأعمال غير المكتملة من ولايته الأولى، مما قد يؤدي إلى شل برامج حيوية محتملة.
- يشعر المقربون من المفاوضات المتوقفة بشأن معاهدة التأهب للوباء التي توسطت فيها منظمة الصحة العالمية بالقلق أيضا من أن الإدارة الجديدة ستوقع على حكم وفاة هذه المعاهدة.
- الولايات المتحدة هي أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية والصندوق العالمي لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية والسل والملاريا. وهي تمول برامج محلية مثل برنامج بيبفار، الذي يتصدى لفيروس نقص المناعة البشرية في أكثر من 50 دولة.
- خفض التمويل الأميركي من شأنه أن يأتي في وقت سيء بالنسبة للمنظمات غير الربحية، التي تكافح بالفعل تخفيضات من جانب مانحين آخرين من الدول الغنية مع تلاشي ذكرى جائحة كوفيد-19.
خسائر متوقعة
أستاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، يشير في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى بعض الخسائر المتوقعة والتي تهدد منظمة الصحة العالمية، حال تنفيذ ترامب تهديداته، من بينها:
- تراجع التمويل، خاصة وأن الولايات المتحدة الأميركية من أكبر الممولين لمنظمة الصحة العالمية (..) لذا فإن الانسحاب سيترك فجوة كبيرة في ميزانية المنظمة، مما سيؤثر على قدرتها على تنفيذ برامجها الصحية على مستوى العالم.
- قد يتسبب نقص التمويل في إبطاء أو تعطيل برامج مكافحة الأمراض المعدية مثل الملاريا والسل وفيروس نقص المناعة المكتسبة،خاصة في الدول النامية في ظل انتشار أوبئة عالمية.
- انسحاب دولة بحجم وتأثير الولايات المتحدة قد يؤدي إلى زعزعة ثقة الدول الأعضاء في المنظمة، وربما يشجع دولاً أخرى على تقليص دعمها.
وعن تأثير الانسحاب الأميركي من منظمة الصحة العالمية حال حدوثه على صحة مليارات البشر حول العالم، عدد خبير الاقتصاد الدولي أيضًا بعض التأثيرات المتوقعة، ومنها:
- إضعاف الاستجابة للأوبئة؛ فالانسحاب الأميركي قد يضعف التنسيق الدولي في مواجهة الأوبئة، ما يعرض العالم لخطر تفشي أمراض على نطاق أوسع، إضافة إلى تفاقم الأزمات الصحية في الدول النامية، حيث تعتمد العديد من الدول النامية على برامج منظمة الصحة العالمية في مجالات مثل التطعيم والصحة الإنجابية والرعاية الصحية الأولية، لذا فإن انسحاب الولايات المتحدة قد يؤدي إلى تقليص هذه البرامج، مما يهدد حياة الملايين.
- ضعف البحث والتطوير؛ فمنظمة الصحة العالمية تلعب دوراً أساسياً في تنسيق الأبحاث الصحية، وانسحاب الولايات المتحدة منها قد يؤثر على تمويل أبحاث الأدوية واللقاحات، مما يبطئ من إيجاد حلول فعالة للأمراض المستجدة.
ويشدد أستاذ الاقتصاد الدولي على ضرورة اللجوء إلى تحركات بديلة ودول أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي لسد الفراغ المالي والسياسي الذي قد تتركه الولايات المتحدة، لافتاً إلى أن ذلك قد يتطلب وقتاً ويؤدي إلى تغييرات في سياسات المنظمة.
ويؤكد أن هناك حاجة ضرورية للتضامن الدولي، مشيراً إلى أن الانسحاب الأميركي المحتمل يبرز أهمية تعزيز التعاون الدولي لمواجهة التحديات الصحية التي لا تعترف بالحدود.
من يملأ الفراغ؟
وبالعودة لتقرير الصحيفة البريطانية، فقد أشار إلى أنه إذا خفضت الولايات المتحدة تمويل الرعاية الصحية، فليس من الواضح من سيملأ الفجوة. ويقول أستاذ الصحة العالمية في جامعة جورج تاون، لورانس جوستين، إن الزعماء الأوروبيين أبلغوه بأن الاتحاد الأوروبي أو الدول الفردية من غير المرجح أن تتحرك.
وقال جيريمي يود، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بورتلاند ستيت، إن احتمال هيمنة الصين على الهيئات العالمية قد يثير قلق ترامب، لكن بكين تظل أيضًا “مترددة” بشأن وكالات مثل منظمة الصحة العالمية. وقال جوستين إن “الصين لديها فكرة مختلفة تمامًا عن الصحة العالمية والتعددية عن الولايات المتحدة”.
ولم تتعهد مؤسسة جيتس، وهي قوة رئيسية في مجال الصحة العالمية وثاني أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية، حتى الآن بزيادة تبرعاتها.
بالنسبة لأيواد ألاكيجا، المتخصصة في الصحة العالمية ورئيس منظمة “فايند” غير الحكومية للتشخيص ومقرها سويسرا، فإن الانسحاب المحتمل للولايات المتحدة هو “دعوة واضحة” لقادة الدول النامية للاستثمار في بلدانهم.
خلل كبير
من جانبه، أكد مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، أبو بكر الديب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن:
- منظمة الصحة العالمية ترعى وتحافظ على ملايين البشر في العالم بكل القارات وخاصة القارة الإفريقية، وكذلك مواطن الصراعات والحروب مثل غزة ولبنان وفي أوكرانيا، فضلًا عن العديد من البؤر المُلتهبة.
- كثير من الدول تحتاج إلى المنظمة سواء في الوقاية أو مساعدة المواطنين في الحروب وأماكن الفقر والعوز، أو في حالة أوبئة كما حدث أثناء ظهور جائحة كورونا في العام 2020.
- دور المنظمة هام للغاية، فهي مظلة تشمل ملايين المرضى والفقراء حول العالم.
- الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر دولة وأكبر اقتصاد على مستوى العالم، وانسحابها المحتمل يهدد بإحداث خلل كبير في عمل المنظمة.. ومن المرجح أن يلي تلك الخطوة انسحاب آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب من منظمات إنسانية أخرى.
ويشدد على أن الانسحاب الأميركي من منظمة الصحة سيفقدها دورها الإنساني بعد أن فقدت (الولايات المتحدة) دورها وتأثيرها السياسي.